[size=16]يتم كساء الكعبة المشرفة بالكسوة الشريفة مرة كل عام التي أصبحت في السنوات الأخير مرتين كل عام ومن هنا جاء اهتمام المسلمين بالكسوة المشرفة وصناعتها والإبداع فيها وتسابقوا لهذا الشرف العظيم كما جعلوا يوم تبديلها من كل عام احتفالاً مهيباً فما هي حكاية هذه الكسوة المشرفة وكيف تعامل مع صناعتها أبرع فناني العالم الإسلامي.
البداية كانت في مصر
حظيت مصر بشرف صناعة كسوة الكعبة منذ أيام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث كتب إلى عامله في مصر لكي تحاك الكسوة بالقماش المصري المعروف باسم " القباطي" الذي كان يصنع في مدينة الفيوم. وقد تعددت أماكن صناعة الكسوة مع انتقال العاصمة في مصر من مدينة إلى أخرى فمن الفسطاط إلى مدينة العسكر ثم مدينة القطائع حتى انتهي الأمر إلى مدينة القاهرة المعزية، كما تبدلت الأماكن ما بين مدينة دمياط ودار الطرز بالإسكندرية وتشرفت بها بعض قصور الأمراء.
انتهي الأمر بأن تأسست دار كسوة الكعبة بحي " الخرنفش" في القاهرة عام 1233 هجري، وهو حي عريق يقع عند التقاء شارع بين الصورين وميدان باب الشعرية ومازالت هذه الدار قائمة حتى الآن وتحتفظ بآخر كسوة صنعت للكعبة المشرفة داخلها. ولنتأكد من مكانة الكسوة في قلوب المصريين ومدي احتفائهم بصناعتها يكفي أن نطالع ما كتبه المؤرخ المصري " عبد الرحمن الرافعي " :
إن دار الكسوة كانت تضم سبعين ماكينة وثلاثمائة نول بالإضافة إلى آلات عديدة لصناعة الحرير والقطن والأقمشة ومنها المخيش وهو نوع من الخيوط السلكية الرقيقة التي يتم نسجها من الفضة الخالصة والذهب، وكان صناع الكسوة وعمال الزركشة يتبعون تقاليد خاصة في صناعتها فنراهم جميعاً في على وضوء وقبل بداية العمل يقومون بترديد جماعي لسورة الفاتحة بصوت جماعي يرتج له المكان حتى يعم أرجاء الحي وبعد ذلك يطلقون البخور.
وإذا تواصل العمل وشعر العاملون بالإجهاد وسال العرق من أيديهم يقومون بغسلها في أطباق بها ماء الورد، وفي العصور الأخيرة لقيت هذه الدار الكثير من التقدير والكثير من شهادات التفوق التي تشهد لعمالها بالإتقان والإبداع وقد جاءها هذا التقدير من دول أجنبية كفرنسا وبلجيكا،
واستمر العمل في دار الخرنفش حتى عام 1962 ميلادية إذ توقفت مصر عن إرسال كسوة الكعبة، وتولت المملكة العربية السعودية شرف صناعتها بعد أن انتهت من إقامة دار خاصة لصناعة الكسوة بمنطقة " أم الجود " بمكة المكرمة تشتمل علي أحدث الوسائل والأدوات الحديثة التي تستخدم في النسيج والصباغة، وفي دار أم الجود قسم خاص بالزركشة اليدوية حيث تصبغ الأقمشة الخارجية للكسوة باللون الأسود أما الأقمشة الداخلية فتصبغ باللون الأخضر كما تصبغ الخيوط القطنية المستخدمة كحشو باللون الأصفر الذهبي … وعلي الرغم من استخدام أسلوب الميكنة إلا أن الإنتاج اليدوي مازال يحظى بالإتقان والجمال الباهر حيث يتفوق في الدقة والإتقان واللمسات الفنية المرهفة والخطوط الإسلامية الرائعة.
مكونات الكسوة.
جاء بآخر وثيقة مصرية حررت وسلمت للحجاز عام 1308 هجرياً الموافق 1961 ميلادية أن كسوة الكعبة المشرفة تتكون من ثمانية أحزمة وأربعة كروشيات، وهي عبارة عن زخارف كتابية في شكل دائري له تكوين خاص وجميعها مزركشة بالمخيش الفضي الأبيض والمخيش الفضي الملبس بالذهب البندقي علي حرير أطلس أسود وأخضر، مركبة جميعها علي ثمانية أحمال من الحرير الأسود الكمخي وهذه الأحمال مبطنة بالبفتة البيضاء المتماسكة عروضها بأشرطة من النوار القطن الأبيض، وتتكون الأحمال الثمانية من اثنين وخمسين ثوباً من القماش الكمخي، طول الثوب 14,8 متراً وعرضه متراً واحداً.
أما ستارة باب الكعبة فهي مزركشة بالمخيش الأبيض والمذهب علي حرير أخضر وأسود وأحمر ومبطنة بالحرير الأبيض، وتتكون ستارة باب التوبة داخل البيت الحرام من الحرير الأطلس الأسود والأخضر والأحمر المزركشة بالمخيش ومبطنة بالحرير الأصفر، أما كيس مفتاح الكعبة المشرفة فيصنع من الأطلس الأخضر والحرير المزركش بالمخيش الفضي وله ثلاثة أحبال مجدولة تعرف بالمجاديل وواحد وأربعون حبلاً من القطن تعرف بالعصافير
ووظيفة هذه المجاديل تعليق الكسوة في سطح الكعبة بعد خياطتها في الجزء العلوي من الكسوة أما العصافير فهي خيوط رفيعة تقوم بربط الكسوة في النحاس المثبت في محيط الكعبة العلوي.
الزركشة فن ومهارة …
فن الزركشة من أرقي الفنون التي يتميز بها الصانع العربي الماهر، وخاصة الصانع المصري، وزركشة كسوة الكعبة المشرفة علي وجه الخصوص لها سمات حيث تحف بها القداسة لتضيف صفحات رائعة للفن الإسلامي تبهر العيون وتشرح القلوب حيث شملت فنون زركشة كسوة الكعبة ثلاثة جوانب تجمعت معاً لتبرز محاسنها علي أكمل وجه حيث الحرف بما له من معني وشكل والزخارف بما لها من وحدة الإيقاع المنتظم واللون بما له من وقار التعبير الهادئ …
وإذا بدأنا بزركشة الأحزمة نجد أن الخط مكتوب بخيوط المخيش البارز وفوقه وتحته شريطان زخرفيان بأسلوب الزركشة البارزة، وكل شريط ينحصر بين خطين يحصران توريقا علي جانبيه فرع نبات يأخذ موجة الماء، ويستخدم خط الثلث لكتابة الآيات القرآنية الخاصة بكل حزام … والفنان يبدأ بحصر الكتابة في قوس مفتوح جهة اليسار يعلوه توريق في حين ينهي كتابة الحزام بقوس عكس الاتجاه الأول وبنفس طريقة حصر القوس الأول مع الاختلاف في الاتجاه لكي يعطي نوعاً من التماثل في أسلوب الزركشة
ويضع الفنان زركشة دائرة تسمي " الرنك " تنقسم إلى أربعة أقسام متساوية تشكلها أربع كلمات هي : يا حنان، يا منان، يا سبحان، يا ديان. وهذه الكلمات الأربع تشترك جميعها في أول حرفين " يا " كما تشترك في الحرفين الأخيرين " ان " وتشكل هذه الكلمات ما يشبه الوردة. وعند أركان الكعبة توضع أربع كردشيات، وكل كردشية عبارة عن دائرة داخل شكل مزركش علي شكل مربع، وهذه الدائرة تحوي سورة الإخلاص مكتوبة علي شكل دائرة وقد كون الخطاط تشكيلاً مزركشاً مشبكاً من كل الحروف ذات السيقان في سورة الإخلاص، وهذا التشكيل الهندسي حوى تشكيلاً آخر دائرياً عبارة عن أربع كلمات من دعاء " يا الله "..
ويتكون الإطار المزركش الذي يحيط بالكردشية من أربع زوايا من الزركشة في الأركان متصلة ببعضها البعض وهي عبارة عن تشكيل هندسي من الأوراق النباتية المتداخلة.
ستارة باب الكعبة …
من أكثر قطع الكسوة المشرفة احتفاء بالزخارف النباتية والهندسية والخطية والمثال علي ذلك ما تحمله آخر كسوة للكعبة صنعتها مصر ولم تزل محفوظة بدار الخرنفش حيث تتماثل الزركشة الهندسية حول محورها الرئيسي أما زركشة الخط فهي لا تخضع لهذا التماثل نظرا لوجود آيات قرآ نية تأخذ مساحة أكبر من النصف وتكثر الزخارف والزركشة في الجزء السفلي من الستارة وهي ما يسمي بالقائم الكبير والذي به فتحة باب الكعبة لكي يبعد باقي الزخارف الكتابية عن مستوي الأرض بأكبر مسافة ممكنة لأنها تحتوى علي آيات قرآنية وتأخذ هذه الآيات أشكال دائرية وبيضاوية علي هيئة القنديل أو ثمرة الكمثري .
باب التوبة …
ويقع علي يمين الداخل من زاوية الركن الشمالي الشرقي للكعبة المشرفة وهو يؤدى لمدرج يصعد من خلاله إلى أعلي الكعبة، وستارته مصنوعة من الحرير المزركش بخيوط المخيش ولونها أسود وقد استخدم الفنان بعض قطع الحرير الأخضر إمعانا في إظهار الآيات المؤكدة لمعاني الأيمان والتوبة وقد عمد الفنان لزركشتها بالدوائر وبالتكوين المتكرر بلا فروع نباتية.
كيس مفتاح الكعبة …
آخر كيس لمفتاح الكعبة صنعته مصر عام 1962 ميلادية موجود حاليا بدار الخرنفش بمدينة القاهرة، وهو مكتوب بالمخيش الفضي والذهبي وزركشته لم تختلف كثيرا حيث حدثت به بعض التغييرات الطفيفة مثل استخدام النقط بدلا من الوردة.
والآية القرآنية الكريمة التي تكتب علي هذا الكيس لها قصة، فقد رد النبي "صلي الله عليه وسلم" مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة بعد أن أخذه منه عمر بن الخطاب وقال عليه السلام : خذوها يا بني طلحة خالدة إلى يوم القيامة لا ينزعها منكم إلا ظالم، بعد أن نزلت الآية القرآنية الكريمة "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها" وهذه الآية المكتوبة علي أحد وجهي الكيس وعلي الوجه الآخر الآية الكريمة "إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم" صدق الله العظيم.
وهكذا يكتمل بهاء الكسوة الشريفة وتأخذ الكعبة المشرفة زخرفها ويشيع في أنحاء المكان شعور طاغ بالعظمة والجلال تنتفض له قلوب المؤمنين والإحساس بقدسية المكان وبروعة المكوث فيه والرغبة في العودة لزيارة الكعبة المشرفة.
الملابس الجديدة هي فرحة العيد وبهجته بالنسبة لنا جميعاً، وللكعبة المشرفة فرحة هي الأخرى، فهي أيضا لها ملابسها الجديدة، ترتديها مرتين، الأولى مع بداية شهر شعبان والثانية مع ذي الحجة، ولكن كسوتها ملكية؛ لأنها كسوة مطعمة بالذهب والفضة والجواهر.
فبمجرد دخول الكعبة المشرفة تتعلق الأعين بهذا المربع الذي حمل قواعده سيدنا إبراهيم وأرساه إسماعيل، وأسسه آدم والملائكة من قبله، الأمر الذي يدفعنا إلى التهافت إلى الإمساك بتلك الكسوة التي تعلو هذا البيت المعمور الذي جعله الله سبحانه وتعالي قبلة للمؤمنين.
ولكن ما سر تلك الكسوة ؟ ولماذا اللون الأسود المطعم بالذهب والفضة والخطوط الماسية؟
حرير وفضة رغم عدم وجود تاريخ محدد لوضع كسوة الكعبة، إلا أن الأرجح أنها ترجع إلى عهد سيدنا إبراهيم و إسماعيل، وقيل أن هذا الزمن يرجع إلى عام 220 قبل الهجرة، وبالتحديد إلى عهد ملك الحُمَير، بينما اتخذت الكعبة شكلها المتعارف عليها اليوم منذ عهد عبد الملك ابن مراون، حيث بدأت كسوتها بأثواب حمر مخططة، والمعروفة باسم "العصب".
ولكن لكسوة الكعبة حكايات ورحلات، خاصة من مصر البلد الوحيد الذي قام لأكثر من قرن من الزمان بتصميم كسوة الكعبة كل عام،
والذي يرسله إلى مكة المكرمة في موكب ضخم واحتفالية تستمر لمدة ستين يومياً.
محمل ولا موكب! هذا الموكب المهيب يعرف باسم "المحمل"، وكانت هناك بعثة رسمية تتولى متابعة الكسوة من القاهرة حتى تصل إلى أعتاب مكة المكرمة، فتتولى هذه البعثة إزالة الكسوة القديمة ووضع الجديدة.
ولهذا أنشأت مصر داراً لكسوة الكعبة المشرفة في حي "الحرنفش" في وسط القاهرة، كما كانت تقوم بعمل كسوة للحجرة النبوية بالمدينة المنورة، وستارة لباب الكعبة وكسوة لمقام إبراهيم عليه السلام، وكيس من الديباج لمفتاح باب الكعبة.
حدوتة الكسوةويحكي لنا الحاج كامل يوسف أصيل – 68 – سنة آخر من شارك في صناعة كسوة الكعبة عن ذكرياته في صناعة الكسوة قائلاً أن هذه الحرفة يتم توارثها أبا عن جد، ولها عائلاتها الخاصة بها.
وأضاف الحاج كامل لـ(عشرينات): "أتقنت هذه المهنة عن طريق والدي الحاج يوسف أصيل منذ كنت في العاشرة من عمري، فتعلمت وقتها صناعة الأحزمة الخاصة بكسوة الكعبة وكيفية تقسيم الحروف التي يتم بها كتابة الآيات القرآنية والنصوص الإسلامية، التي توضع على الأستار الخارجية".
وعن طريقة تنفيذ هذا العمل الرائع يقول عم أصيل أن هذا التصميم يبدأ برسم الحرف على ورق "كلك"، ثم يخرم - ويطبع على القماش.
وعن خبرته في هذا المجال يشير عم أصيل قائلاً: "لقد شاركت في صناعة 15 كسوة للكعبة خلال عملي في هذه المهنة، أما عن النقوش التي تزين الأستار، فكانت من الفضة عيار 599 ومن الذهب بنسبة 5%، وكان وزن الكسوة يصل إلى أكثر من نصف طن في بعض الأحيان، حيث تنقش جميع الأحزمة بخيوط من الذهب، بينما توزع الفضة على الأحزمة والأطر الخارجية".
وعن طقوسه الخاصة أثناء العمل في صناعة الكسوة، فيقول الحاج كامل أنه كان يتوأضأ حتى يدخل إلى دارة الكسوة، وكان يقرأ الفاتحة، وكأنه يدخل إلى المسجد؛ نظراً للهيبة والقدسية المرتبطة بصناعة الكسوة.
مهرجان البركة! أما عن الدور المصري في صناعة كسوة الكعبة، فيقول الحاج كامل أصيل أن مصر استمرت في صناعة وإرسال كسوة الكعبة المشرفة، أو ما كان يعرف باسم "محمل الكعبة" منذ الفتح الإسلامي حتى توقفت عام 1962 نتيجة الخلافات السياسية حينئذ بين الملك فيصل والرئيس جمال عبد الناصر.
وكانت الكسوة تحمل على الجمال وتستغرق حوالي شهرين من القاهرة إلى السويس ومن السويس حتى الأراضي المقدسة في موكب رائع ومهرجان شعبي تحت أشراف ومتابعة أعلى الجهات في الدولة.
أما عن أخر كسوة تم تصنيعها، فيخبرنا الحاج كامل أنها قد صنعت عام 1962، ولكن لم يكتب لها السفر إلى مكة ولا تزال موجودة في مصر حتى الآن في مخازن دار الكسوة في حي "الحرنفش".
وتكونت تلك الكسوة من ثمانية أحزمة كرودسية مزركشة بالمخايش الفضية، والملبسة بالذهب البندقي على حرير من اللون الأسود والأحمر والأخضر، ومن هذه الأحزمة ستارة بيت الله الحرام، وستارة سطح البيت بالإضافة إلى الأستار الداخلية، وتزين جميع هذه الأستار بآيات قرآنية، وبلغت تكلفتها حينها حوالي 200 ألف جنيه نظرا لكون الخامات مصنعة من الحرير الطبيعي الخالص.
[/size]