الاضطرابات، الأمراض النفسية والشعوذة
تعرف الصحة النفسية على أنها قدرة الفرد على التعامل مع المحيط الاجتماعي، والتفاعل معها بشكل سليم وايجابي، وذلك من خلال إيجاد طرق وقنوات أمنه للتفاعل والاتصال والتواصل، لتحقيق الذات ولعب دور فعال في المجتمع الذي يعيش فيه، حيث أن الوصول لحالة التوازن تتطلب الدعم من الأسرة بالشكل الأساسي ومن المجتمع، حيث " يتأثر الإنسان بالجوانب الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية والدينية ويختلف تأثير هذه الجوانب على الإفراد حسب طبيعتهم البيولوجية والوراثية والعمرية، فمنهم من يصل إلى توازن مع ذاته والبيئة المحيطة به دون المرور بحالة نفسية ومنهم من بحاجة إلى تدخل خارجي لمساعدته للوصول إلى توازن مع ذاته ومحيطة" (المركز الفلسطيني للإرشاد ، وآخرون).حيث تصف منظمة الصحة العالمية: الصحة النفسية بأنها تشكِّل جزءاً من الصحة العمومية. وهي تُعنَى بالطريقة التي بها نتصرف، ونشعر، ونفكر، ونتذكّر، ونحلّ المشاكل. علماً بأن الشخص الصحيح نفسياً يقدّر نفسه ويقدّر غيره، ويدرك إمكاناته ويعين غيره على تنمية إمكاناته، مع احترامه في الوقت نفسه للقِيَم الاجتماعية والثقافية.
لذا "فالصحة النفسية تعني ما هو أكثر من مجرَّد انتفاء المرض. وهي تشتمل على كامل طيف الانفعالات، والسلوكيات، والأماني، والمساعي الإنسانية، وتتفاعل معها جميعاً. ومن ثـَمَّ، فهي تمثِّل الأساس الذي يقوم عليه بنيان النماء الإنساني" ( منظمة الصحة العالمية ، 2001)
وعند النظر لتعريف الصحة النفسية يمكن تحديد ماهية المرض أو الاضطراب العقلي أو النفسي، التي يمكن تحديدها بأنه خلل في التوازن مع الذات أو البيئة المحيطة، وذلك لأسباب ورائية أو خلل في البيئة المحيطة للفرد، وفي تعامله مع المحيط الخاص به، وفي الدعم المتوفر له عند مواجهة مشاكل الحياة العادية .
يمكن إثبات ذلك من خلال التساؤل حول عدم مواجهة جميع من يتعرضون لنفس المشاكل الاجتماعية والنفسية إلى إمراض نفسية واجتماعية، والتفسير لذلك يعود لاختلاف البيئات الداعمة، أو تطوير وسائل للتعامل مع هذه المشاكل، بالإضافة إلى أهمية العمر إثناء حدوث المشكلة .
حيث بينت العديد من الدراسات أن مواجهة الأطفال خاصة للحروب والنزاعات يؤثر على صحتهم النفسية ويجعلهم معرضين أكثر من غيرهم إلى الإمراض والمشاكل النفسية، وذلك لخصوصية مرحلة الطفولة، حيث أن الأطفال يتأثرون أكثر من غيرهم بالظروف المحيطة بهم وذلك لصعوبة فهم وتحليل مجريات الإحداث، أو لعدم القدرة على طلب المساعدة، والتعبير عن الحالة الشعورية التي تعتريهم نتيجة هذا الحدث.
حيث كشفت منظمة الصحة العالمية في عرض لواقع الصحة النفسية في فلسطين في يوم الصحة العالمي عن ازدياد المشكلات النفسية لدى الأطفال نتيجة تعرضهم آو مشاهدتهم للإحداث في الأراضي الفلسطينية والتي انعكست في إعراض مثل " حالات من القلق، والاكتئاب وردود الفعل الذهنية. وتتزايد مشكلات الأطفال النفسية، والتي منها الجَيَشان، والسلوك العدواني، واضطرابات النوم، والقلق" ( منظمة الصحة العالمية، 2001)
وهنا يتم التساؤل عن العلاقة بين الاضطرابات النفسية والشعوذة علما انه منذ القدم ساد في العديد من المجتمعات ومنها المجتمع الفلسطيني ربط ما بين الجن والأرواح والإمراض والاضطرابات النفسية ، وطرق علاجها عن طريق الفتاحين والمشعوذين وما يسموا بالشيوخ.
حيث فسر العديدين قبل التطور العلمي في المجال النفسي على أن هذه الإمراض ما هي إلا أرواح تسكن الإنسان المريض أو جن ما يلبسه أو عمل تم تنفيذ لإعاقة حياته، وقد أمنت العديد من المجتمعات منذ القدم حتى يومنا هذا بهذه المعتقدات، وعملت على التعامل مع المريض النفسي على هذا الأساس .
وقد لجئت العديد من المجتمعات إلى طرق شعبية للتعامل مع المريض النفسي، وهي اللجوء إلى أشخاص محليين في المعظم غير متعلمين يدعون علاقتهم بالدين وان لديهم علاقات مع هذه الأرواح والجن ويستطيعون طردها، وقد انتشرت هذه المعتقدات في فلسطين كما غيرها من المناطق العربية ، خاصة في ظل ذكر الجن في القران الكريم ، الذي ساعد الفتاحين والمشعوذين على استخدام ادعاء علاقتهم بالدين لعلاج المرضى النفسيين وادعاء قدرتهم على التعامل مع المشاكل الاجتماعية ومشاكل الأزواج وعدم التوفيق في الحياة المهنية .
وقد استمرت هذه التفسيرات وتناقلت حتى يومنا هذا، وتزايدت في ظل التراجع الاقتصادي والسياسي الذي اثر على الوضع الاجتماعي للإفراد والمجتمعات، وتزايد شعور إفراد المجتمع بالإحباط واللاحول ورغبتهم لإيجاد تفسيرات خارقة تفوق طاقتهم وإمكانياتهم واستخدامها كتفسيرات لحدوث هذه المشاكل، الأمر الذي لا يستدعي منهم أي تغيير في نمط الحياة او أي جهد بل يستدعي تدخل خارجي لإيقاف التأثير الخارق وبالتالي يؤكد حالة اللاحول والعجز التي يعيشونها.
ما يؤكد هذا التفسير هو وجود هذه الظاهرة أي اللجوء لتفسيرات خارقة تعالج عن طريق الفتاحين بشكل أساسي في دول العالم التي تعاني من الأزمات الاقتصادية والسياسية والتي تعاني حالة من الجمود والركود بل التراجع على المستوى الاجتماعي ، وتزيد الوصمة في حكمها وتنصيفها للإفراد.
ساعدت هذه العوامل مجتمعة وشجعت العديدين من الأشخاص الذين يرغبون في السيطرة وفي الغالب الأشخاص الذين لم ينالوا قسطا وافرا من التعليم والذي لا يتمتعون بمكانة اجتماعية، مكنتهم من امتهان هذه المهنة في ظل وجود تربة خصبة من المجتمعات لتقبلها، الأمر الذي يساعدهم بتوفير مصدر مالي وفير بالإضافة إلى مكانة اجتماعية لم يتمكنوا من الحصول عيها.
إقبال العائلات والإفراد لعلاج مشاكلهم بهذه الطريقة، لأسباب ذكرت منها حالة اللاحول والعجز ، الخوف من الوصمة المجتمعية، تؤكد الروايات التي يتم تناقلها من قبل المجتمع والتي تروي نجاح العديد من المشعوذين في علاج المشاكل والإمراض النفسية والاجتماعية، ، علما أن هذه الروايات إذا تم التمعن بها نكتشف أنها تناقلت على مر سنوات طويلة وتم تحريفها حتى وصلت بشكل مشوه لا يعكس الحقيقة وراء هذه الإعمال.
ما يزيد تأزم الموضوع هو عند اكتشاف العائلة أن الشخص المريض لم يتحسن ، لا يتم البحث عن بديل مهني مناسب للعلاج بل اللجوء إلى مشعوذ أخر، يعني ومتاعب أخرى وتكلفة مادية باهظة حتى تصل العائلة إلى حالة من الاستنفاذ المالي ، والإرهاق النفسي ، والاقتناع بأن الطبيب النفسي أو المختص النفسي هو الحل والعلاج ، ولكن النتيجة هو تدهور حالة المريض بشكل كبير في كثير من الأحيان، وترسيخ اعتقاد المريض بأنه ليس بمريض نفسي وبالتالي صعوبة العلاج والتحسن .
والحقيقة هنا انه لا يوجد أية علاقة بين الأرواح والجن وبين الإمراض النفسية والمشاكل الاجتماعية، وسبب المفهوم الخاطئ في تفسير المرض العقلي والنفسي والتعامل معه يعود للأسباب التالية:
عدم الوعي بتفاصيل أو معلومات حول الإمراض والاضطرابات النفسية واقتصاره بوصمة الجنون أو المجنون.
رغبة الإفراد والعائلات في الابتعاد عن وصمة الجنون أدى بهم إلى البحث عن تفسيرات أخرى لتجنب الوصمة والعزل من المجتمع المحيط ، وهي تفسيرات أكثر مقبولة لدى المجتمع مثل الجن والأرواح والعمل.
عدم انتشار خدمات الصحة النفسية والعاملين في المجال حتى يومنا هذا في العديد من المناطق رغم التقدم الحاصل على خدمات الصحة النفسية في السنوات الأخيرة " فحتى عام 1990، لم تكن هنالك خدمات نظامية للصحة النفسية في المراكز الصحية في المخيمات الفلسطينية حيث وجد 18 طبيباً نفسياً، 15 منهم يعملون في القطاع الحكومي، و3 في القطاع الخاص. ويوجد 40 أخصائيا في علم النفسي السريري (الإكلينيكي)، 13 منهم في القطاع الحكومي، و27 في القطاع الخاص. ويعمل بالبلد 17 أخصائيا اجتماعياً مدرَّباً، و72 ممرضة نفسية مدرَّبة" ( منظمة الصحة العالمية، 2001 )
عدم وجود الخبرة والكفاءة لدى العاملين في مراكز الرعاية الأولية لتحديد إعراض المرض النفسي في حال ملاحظته وبالتالي تحويله للمؤسسات ذات الاختصاص حيث ذكرت منظمة الصحة العالمية "انه لم يكن لدى العاملين الصحيين سوى معرفة قليلة جداً بمشكلات الصحة النفسية في المجتمع، ولم تكن لديهم أي خبرة تُذكر تمكِّنهم من التعرُّف على هذه المشكلات والتعامل معها" (منظمة الصحة العالمية ، 2001 )
رغبته أهالي المريض في الحصول على نتائج سريعة، حيث أن العلاج الدوائي أو النفسي يحتاج إلى وقت وتعاون من العائلة وبالتالي فان العائلة تلجأ للفتاحتين ظنا أن سيتم علاج الحالة فورا.
تأثيرات اللجوء إلى المشعودين
قد يتساءل البعض لماذا الاهتمام بهذا الموضوع والاهتمام بلجوء أهالي المرضى والمرضى النفسيين إلى المشعودين، حيث انه في نهاية المطاف سيتم الرجوع إلى المتخصصين لعلاج هذه المشكلة، بعد اقتناع الأهل بعدم جدوى العلاج عن طريق المشعودين .
أهمية هذا الموضوع تأتي من أهمية موضوع الصحة النفسية بالنسبة للمجتمع الفلسطيني، الذي يعاني من الاحتلال الإسرائيلي وما زال منذ فترات طويلة ، والتي أثرت بشكل كبير على الصحة النفسية وأدت إلى زيادة المشكلات النفسية التي من المرشح أن تزيد بعد إحكام إغلاق جدار الضم والتوسع العنصري ، لذا من المهم في ظل تفاقم المشاكل النفسية والاجتماعية التي يعاني منها الشعب الفلسطيني التي ستؤدي الى زيادة الإمراض والاضطرابات النفسية إيجاد الطرق الصحيحة والمهنية للتعامل معها.
حيث ان الاضطرابات النفسية العصبية مسؤولة عن 11.5% من العبء العالمي للمرض، ومن المتوقَّع أن ترتفع هذه النسبة إلى 15% قبل حلول2020 ( منظمة الصحة العالمية، 2001)
يجب تحديد مخاطر اللجوء للفتاحين والمشعودين ومدعين العلاج بالقران والدين وهي كالتالي :
لجوء المريض إلى جهات غير متخصصة يؤدي إلى زيادة المعاناة وحدة المرض نتيجة عدم قدرة الجهة التعامل مع المشكلة القائمة
زيادة إنكار المريض للمرض خاصة في الإمراض العقلية لتبنيه وجهة النظر الخاطئة التي من الصعب التنازل عنها لاحقا
أهمية الكشف المبكر عن الحالات المرضية التي تزيد فرصة تحسنها وعلاجها في كثير من الأحيان في حال التعامل معها مبكرا
التكاليف المالية الباهظة التي يدفعها أهل المرضى للحصول على العلاج والتي لا تؤدي الى نتيجة بالنهاية
خيبة الأمل التي يعانيها المريض وأهل المريض نتيجة عدم التحسن أو التقدم على حالة المريض
عدم القدرة على الوصول للعديد من الحالات وتلقي الخدمة العلاجية المناسبة حيث أوضحت منظمة الصحة العالمية "إن الأشخاص الذين يعانون من الأمراض المسبِّبة للاكتئاب، لا يتلقَّى الرعاية من بينهم أكثر من 35%، حتى في البلدان المتقدمة، بينما إن الأشخاص الذين يعانون من الفصام في البلدان النامية، لا يتلقَّى الرعاية من بينهم أكثر من 20%"( منظمة الصحة العالمية ، 2001 )
إما فيما يتعلق بالحلول المناسبة لتجنب وصول المرضى للفتاحين والمشعوذين ومدعي العلاج بالقران فأنني اقترح بعض الخطوات التي تقيد في ذلك:
التوعية في مجال الإمراض والاضطرابات النفسية والصحة النفسية بشكل عام ، حيث أن توفر المعلومات لدى المجتمعات تساعدهم في تفسير المشاكل والإعراض التي تواجهونهم وبالتالي التوجه للجهة المناسبة لتلقي الخدمة
العمل على تطوير برامج مكثفة لتقليل الوصمة حول المرض النفسي والعقلي ، ليسهل على العائلات المصابة بالمرض الاعتراف بالمرض وعدم الخوف من عزل المجتمع والبحث عن الجهات المساعدة
الاستفادة من رجال الدين لفضح مدعين العلاج بالقران وتحريم الشعودة ، التي نرى أن للمؤسسة الدينية دور هام في تطوير الوعي المجتمعي في هذه القضية المهمة
توفير الخدمات النفسية في كافة التجمعات السكانية ، على كافة المستويات الوقائية والإرشادية والعلاجية
إدخال الصحة النفسية ضمن المناهج الدراسية ليتم بناء وعي مجتمعي في مجال الصحة النفسية منذ الصغر.