عفوا سأطيل عليكم

يروى أن رجلاًُ ظالمًا ، كان الطليان قد جعلوه مديرًا على بعض المخيَّمات ، في معتقل البريقة أثناء الاحتلال الطلياني للبلاد ، وكان من عادته أن يمرَّ عند طلوع الشمس كل يوم ، من أمام البيوت ، فإذا وجد ماء مرشوشًا أمام البيت ، استدعى صاحبته فجلدها بالسوط عدَّة مرات .
وحدث أن مرَّ كعادته ذات يوم ، فوجد بيتًا مخالفًا للتعليمات ، فتوقَّف أمامه واستدعى المرأة ، وهجم عليها يتلافاها بسوطه ، واحتملت المسكينة مرة ومرة ، فلما قست عليها حرارة السوط ، لاذت بزوجها الذي كان جالسًا هناك ، واحتمت بظهره ، لعله يحميها من أذى الرجل ، ولكن الظالم سخر منها وممَّن لاذت بحماه ، وقال لها ألم تجدي من يحميك إلا هذه اللحية ؟ إنها لحية عاجزة ، ولن تحميك ولا تحمي نفسها ، وصمت الزوج الضعيف صاحب اللحية ، إذ لم يكن في مقدوره أن يفعل شيئًا ، فهو ضعيف جائع مهموم ، بينما واصل الظالم عدوانه ( فتماطاه ) بالسوط مرتين ، ثم راح يتابع المرأة وينتاشها بسوطه ، حتى شفى ما في نفسه، وقضى أربه ، ثم مضى لشأنه .
ودارت الأيام دورتها ، فإذا مدة الاعتقال تنتهي ، وإذا الناس يعود كل منهم إلى دياره ، وإذا صاحبنا الطاغية تسلب منه سلطاته ، وتمحى قدراته ، وتقلِّم أظافره ، ويجرد فيصبح فردًا عاديًا ، ولكنه طريد مظالمه ، تلاحقه لعنات ضحاياه ، وتلفت فوجد نفسه وحيدًا بين أناس ظلمهم ، فكل يطلب منه ثأرًا ، ويتحيَّن فرصة الانقضاض عليه ، جرَّاء ما أحرق من أكباد وظلم من عباد ، فلم يجد أمامه من سبيل للنجاة بنفسه ، غير الهجرة شرقًا ، فرارًا من تبعات الجرائم ، التي ارتكبها في حق أبناء وطنه.
التمس لنفسه رفيقًا ، وأخذ يتنقل متنكِّرًا من أرض المعتقل غربًا ، متوجِّهًا شرقًا ، يميل إلى هذا البيت ليلاً وإلى ذلك نهارًا ، يجوع يومًا ويتقوَّت يومًا ، وما زال يترحَّل حتى بلغ أقصى أرض البطنان ، وجنَّ عليه الليل مرة ، وبلغ منه الجوع مبلغًا ، وتلفت فرأى من بعيد نارًا تضئ وتخبو ، فقال لصاحبه لتبقَ أنت هنا ، وأذهب لآتيك بزادٍ وماءٍ ، ومضى حتى وقف على النار, وألقى تحية المساء مطمئنا ً، إذ يستحيل أن يتعرَّف عليه أحد ، في ذلك الفجِّ القاحل العميق ، في أقصى شرقي البلاد ، وقام صاحب البيت فرحَّب بالضيف ، وناوله رغيفين كبيرين ، وأمر زوجته أن تناوله ( شكوة) اللبن كاملة ليحملها إلى رفيقه .
ولكن صاحبة البيت ، ما إن تفحَّصت قسمات وجه الرجل على ضوء النار ، حتى صاحت تقول : لا والله لا أعطي هذا الرجل شيئًا ، إنه هو ، أتذكر يا فلان ذلك الرجل الذي أشبعني بالسوط في المعتقل ، فلمَّا لذت بك وارتميت وراءك ، قال كذا وكذا يسخر من عجزك ولحيتك ؟ قال: نعم ، قالت : إنه هو هذا والله ، وكأنه لم يغب عني لحظة ، ثم طرحت ( الشكوة) من يديها ، وأنشبت أظفارها في عنق الضيف ، وهي تصرخ وتدعو الجيران ليأخذوا لها ثأرها ، فيريقوا دم العدو البغيض.
وأُسقط في يد الضيف التعيس ، فلم يدرِ كيف يخلص رقبته من قبضة المرأة ، وقد تحوَّلت الآن لبؤة ضارية ، فالتمس العون من صاحب اللحية ، فقال له : أما إن اللحية وإن عجزت يوم ذاك أن تخلصها منك ، فإنها اليوم تقدر أن تخلصك منها ، خذ يا ضيفي العزيز عشاءك ، و(شكوة) لبنك ، وعد إلى رفيقك سالمًا .
قال الرجل لرفيقه – وقد عاد بالخبز واللبن - والله لو أن أهل ذلك البيت قتلوني ودفنوني ، لكان خيرًا لي من ندامة تصبحني وتمسيني .