الغوص على اللؤلؤمزيج من الألم والأمل .. والبؤس والشقاء .. ومظالم لا تحصى .. وديون ليس لها نهاية رحمهم الله .. غناؤهم دعاء .. وصبرهم عطاء .. ومعاناتهم لا تنتهي .. وذكراهم لا تموت
يقول د. بول هاريسون :" إن بعضاً من عبير الرومانسية وعبقا خفيفاً من الليالي العربية تتشبث بفكرة الغوص على اللؤلؤ ، ولكن كأشياء كثيرة أخرى في هذا العالم الحقيقي ، تبدد المعرفة عن قرب الرومانسية .. وتجعل العبير المتبقي أقل جاذبية ، لقد كتب عنه الشعراء .. ولكن يخشى أنهم لم يروا أبداً وجه الحقيقة "_ جزيرة العرب المنسية العدد (84،عام 1913) - تقارير العاملين في مستشفى الإرسالية الأمريكية .ويذكر القبطان الاسترالي - ألن فاليرز في كتابه أبناء السندباد " أنه في عام 1939 خرج من الكويت مائه وخمسون مركبا من جميع الأحجام للغوص على اللؤلؤ .. وأنه في الماضي عندما كان صيد اللؤلؤ في ذروته كان يشترك فيه أكثر من 20 ألفاً من الرجال ... والحقيقة أنه لا توجد حياة تشبه حياة الغوص على اللؤلؤ في أهوالها ومآسيها ، وفي متاعبها ومشاقها ، وفي بؤسها وعذابها .. ولذلك من الممكن تعريف الغوص على اللؤلؤ بمهنة الأعمال الشاقة إذا صح التعبير .ويصف لنا الشاعر الكبير ضويحي بن الرميح الهرشاني ( 1840 - 1907) في الأبيات التالية ما يواجهه رجال البحر من الأخطار والشدائد وما هم عليه من جلد وعزيمة :هبت علينا عواصف والعواصف صلفة حيل
في وسط غبة بحر ماي وسما وبحور وأمواج
شفنا الرهق لكن المعبود ربي عدل الميل
سبحان ربي فرجها يوم ضاقت راعي الفراج
ركب البحر صعب ما دشوه شردان الرجاجيل
ما دشه إلا شجاع ما يهين النفس لا احتاج
لا شك أن الشكوى من الغوص وما يعانيه البحارة من هذه المهنة لها ما يبررها نظرا للظروف التي يعيشها البحارة وما يطرأ عليهم من أمراض وسوء الأحوال الجوية .. وفي النهاية يتم الغواص مدين دائم للنوخذة ، أو صاحب السفينة .. ذاك لأن محصول الغوص قليل ما كان يسدد دينه الذي ستلفه ، فهو مطلوب لصاحب السفينة ، او التاجر ، وهناك ضريبة للحكومة ، ثم المصاريف الأخرى لبيته وأهله والتي لا تترك شيئا للبحار .. الذي يستلف ثانية ليسدد دينه الأول ويظل مديناً إلى مالا نهاية .ويوضح هذا المعنى الشاعر الشعبي الكويتي ( ملا علي الموسى ) في قصيدة جميلة يذم فيها الغوص ومعملة بعض النواخذة القساة .. فيقول :غوصهم ما ينعني له أوله وأتلاه حيلةليتني في نجد غايب سالم من ذا المصايب
ولا حضرت أخذ التبايب كل تاجر جا عميله
قال سوق الدر كاسد والشرا والبيع فاسد
مير أنا ماني بناشد أرضي والكروه جليله
لا يجي شي في بالك الذي عندي حلالك
كل ما تحتاج مالك حقكم حنا نشيله
عقب ما شفتها اخراطة وعرفت مامن قلاطة
والحمل فوقه أوساطة ولا حصل منهم فضيلة
قلت يا غوص الندامة عنك أبصبر دوب دامة
إن تهيا لي سلامة في البحر مالي جبيلة
البحر لا هو بودي لا لبوي ولا لجدي
أقشر ودوله ءأمذي خاسر اللي يجيله
أنذر اللي يركبونه عقب هذا لا يجونه
وايد الأرزاق دونه من بكم عنده دليله
التعب بالغوص ضايع عند شينين الطبايع
سووها فينا قطايع عشرة ويدينه تجيله
هذا دوبه نوخذانا عارفينه من زمانا
اقشر ما ينتدانا طالب ربي يزيله
وفي القصيدة التالية ، نرى حال التجار والغواصين عندما ضرب اللؤلؤ الصناعي اقتصاديات إمارات الخليج ، وكيف كسد اللؤلؤ الطبيعي في أسواق الهند وما آل إليه الحال بين التجار والنواخذة من جهة وبين البحارة والغواويص من جهة أخرى ، حيث يقول الشاعر الكبير زيد الحرب :وتجارنا عقب المعرفة جفونا زل الشتا ياحمود ما سقموناما ادري عسر فيهم ولا نسونا الله عليهم وإن نووا بالتعاكيس
هم ما دروا باللي جرى الغوص كله مثل الحمير ننقاد خمسة أهله
نشكي العرى والجوع ويا المذلة ونركض بخدمتهم سوات البنابيس
بالله عليهم وين ذيك التبايب اللي غدت بين الخلايق نهايب
إلا عليها غلقوا بالعصايب بس حاسبونا بالحبر والقراطيس
وين القماش اللي من الدر جبنا الله عليهم وإن كلوا من تعبنا
ما تعتمر دار بها الظلم يبنى شي يغضب الله ويرضى به ابليس
قالوا العذر يازيد جتنا اعلومك واحنا بعدهم والله ما نلومك
مير استعين بالله يقوي اعزومك لمن يجي شملان ونرخي له الكيس
قماشنا بالهند والله طايح وحنا غدينا بين شاني وصايح
هذي السنه صارت علينا فضايح انتم تبون افلوس وحنا مفاليس
قلت انتم هل الجودات والمروه مير شي حدث فيكم يا ناس توه
اشوف وقت الغوص تاخذون قوة يا ما حديتونا بعصي ودبابيس
يذكر د. بول هاريسون ( 1913) - المرجع السابق - " أن الرجال يغوصون من سفينة صغيرة طوال اليوم في ماء يصل عمقه إلى خمسة وسبعين قدما، انهم عمليا لا يأكلون شيئا اثناء النهار سوى تمرتين أو ثلاث ، وقليلا من القهوة العربية،و في الليل وبعد انتهاء العمل اليومي يأكلون أكثر من هذا بقليل ولكن ليس كثيرا . ثم ينامون ملتفتين حول بعضهم في الأماكن الصغيرة لهم لكي يبدأوا العمل في اليوم التالي.ويضيف د. هاريسون : الاسقربوط مرضاً نادراً ما يعرف في بلادنا هذه الايام .. ولكن بعد موسم الغوص لا تكاد تخلوا جزيرة العرب من بعض الحالات ، بجانب ذلك هناك عدد من إصابات سمك القرش وعدد من اللذين لم يستطيعوا تحمل الغوص العميق ، لقد سمعت في مكان ما عن أربعة رجال ماتوا أثناء الموسم لأنهم لم يصعدوا السفينة بالسرعة المطلوبة.يؤكد الشاعر الكبير مرشد سعد البذالي في قصيدته التالية المعنى الحقيقي للمعاناة في الغوص بعد تجربة حقيقية من رحلات متكررة كأنها لن تنتهي إلا بالموت :أشهد أن دنياي ما جت في عدال زودوها كل عام ترذلون ذوقتنا الكدر من عقب الزلال وعلقت رمحينها بين المتون
خمسة أشهر ما قعدنا بالظلال كود ظل اللي به العاف مخزون
في تصاريف الحجر هي والحبال وان قضوا ذولا هذولا ينزلاون
قالوا أن الصبر تفنيه الرجال غرهم شيل الجلادا والمتون
يا مسولفين السوالف بالعدال أثركم في اللي حكيتوا تكذبون
أشهد أن الصبر تقنيه الجمال كلما حطوا عليها يحملون
ياردون الموت في كل الاحوال غير ذلك والسكارى يضحكون
واعذابي من طويلات الليال اشهد أن الغوص راعيه مغبون
كلما كمل هلال جا هلال من محاتهن يشيبن العيون
أربعة جرد نكملهم كمال لين يكمل حتنهن ويقفلون
يا النشامى يا كريمين السبال كل كون غير كون الله يهون
بد من يومن تشوفون العدال عقب ما رحتوا جنوب تشملون
يبن لنا الشاعر من خلال هذه القصيدة أن الغوص يستغرق من أربعة إلى خمسة أشهر عادة ، وهي يونيو ، ويوليو، وأغسطس وسبتمبر، وبعض الايام من أكتوبر وفي هذه الأيام من الصيف يكون الطقس فيها أقرب إلى الجحيم.ويروي لنا كبار السن من الذين عاصروا الغوص وجربوه أن الغواص بعد إنتهاء فترة الغوص لا يستطيع أن يمشي لعدة أيام نظرا لطول فترة مكوثه في البحر يقول الشاعر جمعان الحضينة العازمي ، في أبيات جميلة :هني من فارق السنبوك شاف الغنم والبعاريني
تسعين ليلة وأنا مملوك كني من السوق شاريني
والنوخذة حلني بملوك عشرج من الصبح يسقيني
ويذكر العم المؤرخ سيف مرزق الشملان في كتابه " تاريخ الغوص على اللؤلؤ في الكويت والخليج " عن شاعر لم يذكر اسمه يذم الغوص ويحذر منه ويصف المعاملة القاسية التي يلاقيها البحرية منه النواخذة .. فيقول :تشاورا بالغوص عمسين الأشوار يا سامعين الصوت لا تركبونه
إن قلت راسي قال شبوا له نار وإن قلت بطني قال دنوا حلوله
وإن قلت ماني بطيب قال عيار دواهي والعذر ما يقبلونه
الغوص مهنة كما يصفها الكابتن الاسترالي - ألن فاليرز- بقوله " إني أعلم من تجربتي على مثل تلك المراكب . بأن قدرة الجسم البشري على تحمل العذاب لا تكاد تصدق ، ومع ذلك فإني إذا قست الغوص على اللؤلؤ في الخليج العربي بأي مقياس أو رأيتها أو قرأت عنها ، فإن الغوص يظل فضيعا حقا ".