كره منذ طفولته البنات فوالدته أنجبت سبع بنات وهو وحيدها.
وما تزال كلمات التأفف والتضجر من والده لأمه عقب كل مولودة، وما تزال همسات الجيران والأقرباء تصرخ في أذنه ونظرات الشفقة والرثاء لوالدته سياطا يلهب أحاسيسه فيثور على البنات ويتألم لما تلق أمه من حولها، وصاحبه هذا الشعور إلى أن تزوج فكان الخوف يملأ جوارحه من أن يكون القدر قد خصه بالبنات وكأنه واثق من إنجاب زوجته!!
وكانت "نهى" باكورة زواجه فتقبلها على مضض، وبدأ يلمح لزوجته تارة، ويصرح مرة أخرى أنها المسؤولة عن جنس المولد، وأنه لا علاقة له بجنس المولود مع أن العلم أثبت العكس تماما، وأن الرجل له دور رئيسي في تحديد جنس المولود بقدرة الله.
تتابعت حبات العقد من البنات إلى أن اكتملت سبعة أرقام والأب يكاد يتميز من الغيظ.
وحملت زوجته للمرة الثامنة فضاق ذرعا وأقسم إن أنجبت ثامنة، فطلاقها بالثلاثة قد يكون هدية الولادة، وكأن المسكينة خيرت بين الذكور والإناث فاختارت الإناث عنادا له !!
وأردف قسمه بأنه سيترك لها البنات وينفذ بجلده منها ومنهم.
ولم ينفعه الإقناع بأن الله { يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ(49) )أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } (الشورى :49،50) لأن شعوره بالحاجة إلى ذكر يحمل اسمه كان يجعله سميعا أصم وبصيرا أعمى، وله قلب لكنه قد من الصخر.
ومضت الأيام على الأم المسكينة كل يوم كألف سنة مما تعدون لا تعرف ليلها من نهارها، أيامها بكاء وغصة تقف في الحلق وتضرع إلى الله أن يجبر كسرها أمام زوجها ويعوض صبرها خيرا، فهي مؤمنة بحكمة الله وقضائه لكنها تخشى الطلاق من أجل بناتها وكلما رأى زوجها خوفها زاد في قسوته وغلظته وكأنه يتلذذ بألمها ويسعد بشقائها. وجاء اليوم الموعود الذي سيفصل بين الزوج والزوجة أو يزيد الزوجية التحاما.
لم تشعر المسكينة بآلام المخاض فهي حاضرة بجسمها غائبة بوعيها واجمة ساهمة لا يبدو على وجهها أي ألم أو انفعال، وكأن تيار الحياة انقطع عنها، فنفسها وروحها وتفكيرها ومشاعرها منصرفة إلى جنس المولد وما يحمله من جحيم أو نعيم، ولخوفها وقلقها أعلن الجنين تمرده في بطنها وكأنه علم بأنه قد يكون غير مرغوب فيه، ولأول مرة احتاجت لعملية جراحية وخرجت الطفلة الثامنة إلى الحياة.
وما أن استفاقت من المخدر، وعلمت بالمولودة حتى علا بكاؤها وصراخها المؤلم، وصارت تضرب رأسها بيديها وتولول وتصرخ، حتى هرع كل من في الغرفة يستطلعون الخبر، ومنهم من ذهب في طلب الطبيب الذي جاء وحاول تهدئتها بعد جهد جهيد، ولما علم السبب في حالتها العصبية تعاطف معها ووعدها خيرا. كل هذا وزوجها لم يتصل ليطمئن على زوجته وكأنه يعلم النتيجة سلفا. أوعز الطبيب إلى الممرضات أن يخبروا الأب بأن المولود ذكرا وكان مطمئنا إلى أن هذا الكذب لا إثم فيه لأنه إصلاح حياة زوجية مهددة بالانهيار. حضر الأب وكان يطير على الأرض فرحا بعد أن اطمأن بالهاتف على جنس المولود، ودخل إلى زوجته والبشر يعلو وجهه، وقد ارتدى ثوبا من الفرحة لم يلبسه منذ زواجه.
بارك لزوجته وسأل عن المولود فأخبرته أنه في الحاضنة، فطار إلى الطبيب ليرى ولده الذي جاء على فاقة، وبكل هدوء أخذه الطبيب إلى حضانة فيها طفل امتدت يد الأب لتحتضنه بكل لهفة السنين العجاف وبكل الحرمان والشوق.. لكنه تراجع دون أن يدري بأن الطفل مشوها!! صرخ صرخة تجلت فيها خيبة الأمل ومرارة الانتظار الطويل وحارب القدر مرة أخرى وأقسم ألا يأخذ الطفل ولن يخرج به من باب المستشفى لكن الطبيب أصر على أن يأخذه عندما يصبح مؤهلا للخروج وأنه مسؤول عنه أمام الله والناس، وهو إنسان له حقوقه الإنسانية، وقد يكون أفضل من السليم الذي يجلب لأهله العار والدمار عندما يكبر، ولكن هذا لم يقنع الأب المجروح وعندما رأى تصميم الطبيب على تسليمه له بعد مدة أسقط في يده واستند إلى منضدة خوف السقوط. أسرع الطبيب فأخذ بيده وبدأ يهون عليه الأمر، ثم سأله أكنت ترضى بابنة كهذه ومد يده بمولودة بريئة؟؟
قبلها الأب دون أن يدري أنها ابنته وأقسم للطبيب أنه يتمنى لو أنجبت زوجته عشر بنات أخر واعترف أن الله عاقبه على اعتراضه لحكمه وتسخطه على قدره وسالت دموع الأب، ولم يستطع الطبيب الصبر ورحم منظر الأب المسكين ودموعه- ودموع الرجل لا يقدرها إلا رجل مثله- هذه الدموع التي أظهرت ضعفه وعجزه أمام قدرة الخالق وندمه، فما كان من الطبيب إلا أن أخبره أن هذه الطفلة التي بين يديه هي طفلتك وأنه أراد أن يعطيه درسا في الاستسلام لله وحكمته. انهال الرجل لثما وتقبيلا على الطفلة تارة وعلى الطبيب تارة أخرى، واختطف الطفلة والطبيب وراءه ودخل حجرة زوجته والسرور بادٍ على وجهه، وقد احتضن الطفلة وكأنه يحتضن العالم بين يديه وهنأ زوجته على الطفلة واعتذر لها عن إساءته وتلا قوله تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء: 19].
وانهمرت دموع الزوجة فرخا لقد عادت إلى بيتها وبناتها وعاد لها زوجها، ونظر الطبيب إليهما وحمل الطفلة ومضى وهو يتلو قوله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114].
وتنفس الصعداء لأنه أنقذ بيتا من أبغض الحلال، واستجاب الله تضرع الزوجة فعوض صبرها خيرا محبة ورحمة.